من قصص اليافعين:
قصة: وقال يومًا: أمي سيئة جدًا
تأليف: وفاء محمد أبو زيد
تدقيق: د. علياء الداية وأ. علياء بركة
من قصص اليافعين - قصة: وقال يوما: أمي سيئة جدا - تأليف: وفاء محمد أبو زيد - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
كانت المرآة تعكس صورتي الجديدة، طالت قامتي بشكلٍ لافت وبانت عضلاتي في السواعد والأكتاف، بطرف سبابتي صرتُ أتحسس زغبًا دقيقًا تحت الأنف، أبتسمُ مُعجبًا بهذه الصورة ويأخذني الزهو إلى بعيد.
أفتح دولابي، لم أكن راضيًا عنها تلك الملابس... أبدًا! كنتُ أتمنى ماركات عالمية غالية الثمن كملابس أصحابي، أما هذا العطر الرديء الذي يركّبه العم درويش العجوز في الأزهر والذي يشبه رائحة البخور، فلم أحبه أيضًا!
"يا حسين! الفطور يا بُني"
من جديد... يا حسين، يا حسين! لا تملّ أمّي تكرار النداء، بعد دقيقة من الآن ستبدأ الأسطوانة اليومية؛ ستطالبني بأن أكمل الرغيفين، لأن يومي طويل من المدرسة إلي الدروس، وستُوصيني بأن آكل العيش الأسمر لأن (الفينو) يُسبب التلبُك المعوي، و"أنت معدتك تعبانة يا حبيبي".
وتظل تُردد عليّ ما سَمِعَتْهُ في خمسة لصحتك عن الغذاء الصحي والطب البديل وأكل الخضروات؛ الجرجير والفجل والكراث. آه وهل يوجد من يأكل الكراث؟! و ما هو الكراث؟! أمي تُلح في اختياراتها وتوصياتها، والكثير الكثير من الثرثرة!
عندما أخرج إلى الشارع أشعر براحتي، وأتحوّر إلى عصفور خرج لتوّه من قفصه الذهبي إلى كون فسيح أنا سيده... أضحك، أغني، يعلو صوتي، ويحيط بي الأصحاب من كل اتجاه، نشبه بعضنا، يضحكون على نكاتي السخيفة والتي لا تضحكني أنا شخصيًّا!
"لا تجلس هكذا على الرصيف؛ أنا أمك أريد مصلحتك"
سأقعد القرفصاء على نفس الرصيف، وتتسخ ملابسي بالكامل، ولن أحضر اليوم درس الكيمياء؛ أنا أكره الكيمياء!
بالأمس رأيت "أمل"، كانت جميلة وهادئة كعادتها، مهذبة لا ترفع عينيها من الحياء، عائلتها أيضًا محترمة. أحب النظر إليها في أول اليوم؛ يكون له مذاق آخر هذا اليوم الذي يبدأ بوجه أمل. كانت أمها إلى جوارها هذه المرة، تحمل قفصًا عليه أرغفة من العيش البلدي الساخن، والذي فاحت رائحته الطيبة على بعد مسافة، أسرعت بخطواتي ناحيتهما…
- عنك يا أم أمل.
- تسلم يا حسين.
من قصص اليافعين - قصة: وقال يوما: أمي سيئة جدا - تأليف: وفاء محمد أبو زيد - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
أحمل قفص العيش على كتفي بيد واحدة وبخطوة واثقة، أجيبها عن سؤالها عن أمي وعيناي على الوجه الطفولي الذي أكسبه الحياء حمرة وردية شائقة، تتابعهما نظراتي حتى دخولهما إلى شقتهما في الدور الأرضي وإغلاقهما الباب، تناديني أمي لأحمل عنها الكرنبة والخضار من آخر الشارع، فأتبرم؛ ألا تهدأ الطلبات قليلًا، ألا تأخذ إجازة! متى تنتهي الطلبات والنصائح؟! أتركها وحيدة في الشارع، تغلب في حمل الكثير والثقيل من الشنط البلاستيكية وبها الخضار والطماطم، مسحوق الغسيل، البيض، الجبن والكرنبة!
لا أمر عادة من الشارع الذي يوجد فيه المصنع الذي تعمل فيه أمي؛ رائحة جلد الأحذية نتنة للغاية وأنا لا أطيقها، أذكر أنني أتيت مرة هنا وأضطررت إلى الدخول؛ كنت أحتاج المال للخروج مع أصحابي. النساء هنا كثيرات، لكل واحدة منهن ماكينة خاصة، تختص بكل ما فيها، تشغلها وتستلم منها الجلد مبسوطًا كصفحة وتقوم أخريات بطيه.
لا أعرف، فقد بدا عليها الإعياء، وكان جبينها يقطّر عرقًا، ولكنها ابتسمت وهي تضع يدها في صدرها حيث الجيب الداخلي السري! وقالت فَرِحة كالطفل… "على حظك قبضنا".
أخذتُ النقود وأنا أتفادى النظر إلى وجهها المكدود، لكنني لاحظت أن يدها مصبوغة بالأسود ورائحتها بشعة، لاحقتني بالدعاء والتنبيهات عن عبور الطريق وعدم التأخر ليلاً وهي تشير إلى زميلاتها… "ابني، ابني!".
أخفي عن الدنيا قصة عملها بالمصنع؛ يشعرني الأمر بالغضب، قلت لها مرة: "لا أريدك أن تعملي فى هذا المصنع، ماذا سيقول الناس عني؟"، ردت فى انكسار بنفس الابتسامة التي لا تغادرها: "وكيف نعيش بالمعاش؟!"، أطأطئ رأسي وأخرج إلى الشارع دون أن أعرف إلى أين ستقودني الخطوة، كل ما أعرفه أنني أمكث ساعات طوالًا في الوقفة على النواصي وفي الحارات المتفرعة الضيقة، أحيانا نلعب الكرة، وربما نشاهد مباراة مذاعة في الدوري الإنجليزي أو الإسباني، وأنسى الأمر برمته.
أتذكر أيام الصغر، تلك التي كنت أرتدي فيها المريلة التيل نادية والشورت الصغير قبل أن يموت أبي، كانت أمي لا تترك المنزل إلا نادرًا، كانت أحلى وأبهى، لها شأن المنزل، أما واجباتي ومدرستي ومصروفي فكان اختصاص أبي. أتذكر ملابس العيد والعيدية التي تكفيني، أشتري وألهو وأركب الدراجات، أما لبس العيد فأكثر من طقم، كل عيال الشارع يحسدونني على ما أنا فيه. الآن هي لا تستطيع فعل هذا مهما فعلت، وتزيد على هذا الكثير من الكلام عن المذاكرة والمجموع العالي والأكل والنوم والانتظام في حضور الدروس.
يلفت نظري تراقص اللمبات الملونة على زجاج واجهة المحل الذي يبيع الهدايا والساعات، ياه... تأخذني الساعة الرولكس وأتمناها على طقم من الجينز وحذاء رياضي ماركة أديداس، أنتبه على منظر أمي منكفئة على ماكينة صنع الأحذية، وتداهم نفسي رائحة الصبغة النفاذة.
من قصص اليافعين - قصة: وقال يوما: أمي سيئة جدا - تأليف: وفاء محمد أبو زيد - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
أقفز إلى القطار الذي بدأ في التحرك بالفعل، تداهمني برودة الجو فأشعر أن الدم يتجمد في أوصالي، هذا القطار بالتحديد تذكرته رخيصة وتُقطع المسافة إلى المدرسة في بطء شديد، والركاب يضحكون لأتفه الأسباب، أغلبهم من العُمّال والمزارعين الذين طحنهم الفقر، تعلو القفشات وتصفق الأيدي ولا أعرف سر هذا الرضا في عيونهم، أُسرع في خطواتي في الممر بين الكراسي وغاية ما يدهشني أن العربات كلها تحمل نفس الوجوه على اختلاف ملامحها، ولكن لمحة الرضا سمتهم المشتركة! أسندت ظهري على الباب ولم أهتم لحركة القطار، ولكن أسلمت قلبي إلى رائحة العُشب الآتية من الحقول القريبة وأنا أطبق أسناني على شفتي السفلية وأسترد نفسًا عميقًا من الهواء المنعش.
على عتبة المدرسة يستقبلني الأستاذ طه موبخًا على التأخير، ويسألني عن شكل الطالب في الشهادة الإعدادية، وعن الشارب الذي خط على وجهي، وكلام كثير عن المسؤولية يشبه كلام أمي، وينهي حديثه بأمر مباشر بالصعود إلى فصلي فالحصة الأولى على وشك الانتهاء.
..........
من قصص اليافعين - قصة: وقال يوما: أمي سيئة جدا - تأليف: وفاء محمد أبو زيد - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
لهب الشمع يتراقص فيتضخم على الحائط، ظلي وظل أصحابي في بيت أحمد صاحبنا، كدنا نرقص من الفرح عندما انقطع التيار؛ لن نذاكر ولا ذنب علينا، كنا ننوي المذاكرة والحمد لله جاءت من عند ربنا. يقهقه الجميع على هذا الترتيب الإلهي وعلى أشكالنا التي تتحرك كخيال الظل في الضوء الواهن، يقسم لأصحابه أنه لم يفتح كتابًا حتى هذه اللحظة رغم مرور قرابة الشهرين، يضحكون وهم يقرُّون نفس الحال.
الأم تجلس في شباكها الضيق، تتوه عيناها في فضاء الشارع، وفوق جبينها هذا الضوء المنكسر الذي يعلوه القلق، فقد تجاوزت الساعة منتصف الليل. مطّت شفتيها وهي تشعر بالإعياء الذي لازمها منذ أن خرجت للعمل من أجل ولدها كي لا ينقصه شيء، تسلل في قلبها دعاء له بالعودة بالسلامة فانتشر الدفء فيه وعم.
ألمحها من بعيد، وكأن قلبها قد قفز من جنبيها واستقبلني على رأس الشارع وهي ترخي طرحتها، وقد استعمر وجهها مساحة شحوب من طول الانتظار، أعود ليلًا وفي ساعة متأخرة، ميت من الجوع، ما إن أدخل من الباب حتى أراها وقد غلبها النوم، أقفل الباب برفق، تبدو منكمشة، جسمها ضئيل، يعلو وجهها الصفرة، تبدو وكأنها تشعر بالبرد، يدها خشنة وفي أظافرها بقايا صبغة سوداء، رغم أنها تستحم كل يوم بعد رجوعها من الشغل، وأيضًا تحسن الوضوء وتصلي الصلوات على وقتها وتتمتم بأدعية كثيرة لا أذكر واحدًا منها، ولكن أستطيع تمييز اسمي في كل دعوة تقريبًا!
أقترب منها فتحس بي دون أن أحاول إيقاظها وتستيقظ وهي تبسمل، تنتظر مني كلمة وهي تنظر بعمق إلى ملامحي وكأنها تراني لأول مرة، أقطع هذا الصمت: "أنا جوعان!".
من قصص اليافعين - قصة: وقال يوما: أمي سيئة جدا - تأليف: وفاء محمد أبو زيد - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
فاتت أيام كثيرة حتى أتى هذا اليوم وكان صعبًا للغاية، كانت مسافة كبيرة تلك التي جعلتها ما بين سريري والباب، عدلت من وضع المنضدة الصغيرة والطبق الزجاجي الصغير المرصوص عليه حبات الحلوى بنكهات الفواكه، كانت تجوب الغرفة وهي تشعر بالقلق، تجلس إلى جانبي ولم تنم في الليلة الفائتة بالمرة، يصعب عليها فهم وجودي متعبًا في الفراش، ألمح عينيها دامعتين وهي تردد: "لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين"، الجدران البيضاء ورائحة الكحول تغشى المسام فأغطّ في السأم وأنا أحاول عد الخطوط المتموّجة بأسماء الأصحاب فوق تابوت الجبس على ساقي، والتي أتمنى هرشها بشدة!
كلمات الاستظراف، سيئة كأصحابها! لم أكن على يقين ساعتها بأنني سأستطيع التحرك ثانية بشكل طبيعي والوقوف على النواصي، أو حتى ارتداء الجينز، مجرد التفكير في الأمر كان يشعرني بالخوف. كنت أسند ذراعي على كتفها وأميل عليها بكل ثقلي، لا أستطيع الاتزان، فأميل أكثر وأنا أخشى أن نسقط سويًّا! تتماسك ولا أفهم من أين أتت بهذه العزيمة المدهشة، تمشي خطوة وراء خطوة حتى تدخلني الحمام، ما زالت تعلمني المشي، وتدخل معي وتساعدني في غسل أعضائي! رغم أني لاحظت في هذا اليوم فقط أنني تفوقت عليها طولًا فكان رأسها موازيًا لصدري.
اقتربت أكثر وهمست لي: "أنت بخير والله بخير"... دبت في أوصالي رغبة عارمة في الفرح، واستشعرت الطمأنينة لكن لم أستطع إظهارها، ربما لأنني تحررت من وسوسة المرض، أم أن الحقيقة هي قدرتها العجيبة على بث الهدوء للروح. لا لا، هراء، أنا بالفعل بخير، لا أعرف كنت مأخوذًا تمامًا بكل ما تقوله، ولكن هذا لا يخفف أبدًا من وطأة ضغطها عليّ.
مللت بسمتها الملتصقة منذ حضورنا، حتى وهي تشد سوستة الشنطة وتربطها بإحكام بعد ما شطفت العمود ولملمت بعناية ما تبقى من الحلوى ربما لعيال الجيران، صارت تدس في أيدي الممرضات حلاوة الخروج بالسلامة. كانت تلاحقني أينما ذهبت، تحذرني والخوف يتملكها تنظر إلى ساقي المجبسة وهي تخبط صدرها: "يا كبدي يا ابني، حاااسب حاسب".
غافلتها بعد خروجي من دورة المياه وأنا أسحب رجلي وراء ساق الخشب التي عليها أتعجز وأذان العشاء يأتي من بعيد، فذهبت هي للصلاة وأمسكت بجوالي أحاول الاتصال بأصحابي أريد رؤيتهم، سئمت القعود معها في بيت واحد لهذه الفترة، تحجج الجميع بأعذار واهية وتُرِكتُ وحدي لهذا المصير!
ننام ونصحو على قائمة من الإرشادات والوصايا والمخاوف من البرد والحر، من الماء وتيار الهواء، من الملح الزائد ومن كثرة السكر، نفس الملل، أيام ممطوطة تعل، أتقوت بحبات الفول النابت المعصور عليه قطرات الليمون لأصبر جوعي، تقول إنه يفيد الهضم وخفيف على المعدة.
لأول مرة ألاحظ هذا الكم الكبير من علب الدواء في الدرج الملاصق لسريرها، ماذا أيضًا؟ مراهم مختلفة الأشكال، حزام خاص بالظهر وأمبولات عدة، أهي مريضة؟! لم يزعج نفسه بمشقة السؤال...
من قصص اليافعين - قصة: وقال يوما: أمي سيئة جدا - تأليف: وفاء محمد أبو زيد - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
مشى بخطوه الأعرج، لأول مرة منذ شهور يدخل غرفتها، وجد الدولاب الذي يخصها مفتوحًا عن آخره، ربما لأنها تأخرت على موعد الوردية بالمصنع، كانت صورة زفافها المذهبة تتصدر المشهد، كانت جميلة بالفعل قبل عشرين عامًا، مثل بطلات أفلام الأبيض و الأسود، الأب أيضًا كان وسيمًا، ملامحه حادة لكن في طيبة، لفت انتباهه أن ملابسها الصيفية هي هي ملابسها الشتوية، بزيادة الشال الصوفي الأسود عليها وجورب مرتق من الأجناب، ولاحظ حينها أن غرفتها ذات رائحة خاصة تختلف عن باقي الغرف، تشبه المسك نوعًا ما ولكن أزكى وأبهى.
وقف يرقب الشارع من شباكها، تتداخل في أعماقه أسئلة ملحة، متى يترك هذا البيت؟ أحيانًا يشعر بأنه يحب الدنيا بكل ما فيها، ولكن الأكثر هي مشاعرٌ بقلبٍ من شمع لا ينقصها التبلد والبرود! أسئلة تخفق لكنها لا تنفلت، ولا يحرضها هو على ذلك.
أنوار لمبات النيون تستعمر سطح العمارة المجاور، تطفئ وتنير، لم يعد يتذكر إعلان الصابون أم المياه الغازية، لمحها وهي تسرع من آخر الشارع، لماذا يرى الآن فقط ثقل خطوتها وألمها؟ لماذا وضح له المشهد من فوق؟ وماذا هو فاعل لها بعد اكتشافه المثير بأن الزمن قد نال منها مناله؟ ارتبك بشدة ودار حول نفسه ثم أخذ قراره السريع بمغادرة الغرفة، وقرر أن يتناوم قبل أن تصل وتترجم كل دواخله! ذرات العرق على جبينها، أنفاسها المتلاحقة من صعود السلم، القبلة الحانية على جبينه وهي تمرر يدها على شعره، يشعر بكل هذا وهي تسحب الغطاء بإحكام على جسده، تخرج وهي تبذل له دعوات فرحة بصوت خفيض خشية أن توقظه.
لماذا في تلك الليلة شعر برهبة من الظلام؟ وتمنى لو أنها جلست معه حتى يروح في النوم! أو ربما روت له حكاية قصيرة من حكايات زمان، أو غنت له: "نام نام، وأنا أعمل لك الحمام"، شغف شديد جعله يقوم بصعوبة لمواربة الباب ليسمح بمرور خيط نور يؤنس إحساسه المفاجئ بالقلق، يهدأ قليلًا وهو يتذكر موعد فك الجبس صباح غد...
يتأفف وهو خارج من غرفته، يستقبل بسمتها الأصيلة والتي هي جزء من ملامحها بعقدةِ ما بين الحاجبين ويمر دون أن يلقي عليها تحية الصباح، تقوم مسرعة لتفرش له سجادة الصلاة وقبل أن تهم بنطق كلمة يردد في ضيق: "صَليت. صَليت! أنا صَليت!"
من قصص اليافعين - قصة: وقال يوما: أمي سيئة جدا - تأليف: وفاء محمد أبو زيد - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
تتشاغل بفك رباط الحذاء الذي يتركه معقودًا دائمًا، ثم حك الطين من النعل وتلميعه ببطءٍ ورويّة.
يفلفل شعره المجعد أمام المرآة بقليلٍ من (الجِل) وهو يصفر، ينتهي من الحذاء فتدس في يده بعض العملات النقدية وهي تردد بود: "يكفيك شر أولاد الحرام".
يتبرم من قلة الجنيهات ويخبط الباب بقوة، تظل تتمتم بدعواتها الفطرية وهي تشعر بالعجز وقلة الحيلة، تراقبه من خلف الشيش حتى يتبخر في زحام الشارع.
قديمة وكل ما فيها قديم! أسمع بكاءها كل ليلة يأتيني عبر المسافة القصيرة بين غرفتينا، وعندما يغشاني النعاس أشعر بوجودها بعيني شبه المغمضة تمرر كفها المعروقة على جبيني وهي تستعيذ بالله من الشيطان، وتفرد على جسمي لحافًا ثقيلًا وتطبع على خدي قبلة، فأحس القلق وأخشى أنني لا أستطيع النوم مرة أخرى! في أيام أخر تنبهني إلى البنطلون الممزق عند الركبتين، والذي اشتريته بمبلغٍ كبير، وقصّة الشعر الغريبة والسلسلة المُدلاة من رقبتي، وتقول على استحياء أنّ هذا كله لا يليق بي وأنا رجل بل سيد الرجال... أرد عليها في سخرية: "أنت لا تفهمين في الموضة"، تطأطئ رأسها وتخرج دون كلمة.
يكره رجوعه إلى المنزل لأنها تسمعه كم النصائح والإرشادات وتثرثر عن الاستذكار والمستقبل والطموح والاستقامة، كما أنها تبالغ في تنظيف الأرضيات وتلميع المرايا وتغيير الملاءات، وتزهر غياراته الداخلية وتشتري له مزيل العرق مع عطر الحاج درويش شهريًّا، وتوفر له درجًا كاملًا من الجوارب من كل الألوان حتى الأصفر الذي لا يلبسه أبدًا! يكره حتى دولابه المرتب المقسم إلى نصفين، ملابس شتوية تتخللها فانلات الصوف، وأخرى صيفية من القطن الخالص، وكله نظيف ومعطر. عندما خرج مع أصدقائه هذا المساء وطلب منها المال، لاحظ أنها تمسك صدرها متألمة، أما يدها الأخرى فلم تتوقف عن كي قميصه الذي سيرتديه، لم يهتم وأخذ يعد النقود وهو متوجه إلى الخارج، راسلته بنظرةٍ ذات معنى!
عشرون أو يزيدون، يرقصون ويقفزون ويصفقون ويرتدون قبعات "البابا نويل" في شوارع وسط البلد التي تكتظ بالناس، رغم أن الوقت قد تخطى ساعات الصباح الأولى، واجهات المحلات الأنيقة التي لم تغلقْ أبوابها هذه الليلة تتزين بأنوار تضيء لتطفئ، وتطفئ لتضيء. كان يتمايل معهم وعينه مركزة على شجرات عيد الميلاد التي انتشرت بشكل غير مبرر في كل مكان!
صمم أن يمشي ما تبقى له من مسافة ونزل من الميكروباص وهو يستنشق هواء البكور النقي، وعلى رغم البرودة التي سرت في أطرافه، شعر بانتعاش الصباح يدب في أوردته وحواسه، كان كل شيءٍ يلفه الهدوء والسكون، والطريق يخلو من المارة والسيارات.
من قصص اليافعين - قصة: وقال يوما: أمي سيئة جدا - تأليف: وفاء محمد أبو زيد - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
سار منتشيًا وكأنه امتلكه واستراح تمامًا لهذا الإحساس وصار يمد الخطوة، عندئذ فقط أهدته خيالات الذاكرة القليل عن والده، كان طويلًا، أسمر اللون، شواربه كثيفة وصوته عالٍ، لا يكف عن الشجار، يتذكر جيدًا عندما أمره بتسميع جدول الضرب، في البداية كان هادئًا، ومع أول غلطة صرخ في وجهه، مجرد صرخة... جعلته ينتفض من مكانه ويجري في الردهة يبحث عن أمه، يحتضنها من خصرها مُخفيًا رأسه في ثنايا جلبابها. كانت المرة الأولى والأخيرة التي تفقد فيها أمرًا يخصه!
لم تكف أمه طيلة السنوات الماضية عن الدخول في جمعيات، تَصُرُ المال في منديلها القديم ثم تخفيه بين طيّات الملابس بحرصٍ في دولابها العتيق، وتعود لتكتب الكثير من الأوراق بخطٍ بدائي وأرقام كبيرة، بأقلام التلوين القاتمة، صار نظرها ضعيفًا. ترتب الأسماء... أم سعيد، أم محمد، أم ليلى وغيرهن، تتوهج الحروف عندما تقرأ أم حسين، وتظل تحسب ما لها وما عليها، وما عليها كان كثيرًا.
تتذكر أنها باعت قرطها الذهبي وثلاجتها في بعض أوقات الضيق، وأنها عملت في بيع البيض البلدي وفي صنع الفطير بالسمن البلدي وكانت تجيده، وتخزن ألذ وأكبر فطيرة له.
انتبه من هذه الذكريات الملحة على شابورة كثيفة تحجب عنه التمثال المنتصب في وسط الميدان مشيرًا بأصبعه، أزعجته هذه الإشارة وكأنها اليوم له من دون الآخرين! طغى على قلبه إحساس بالتوتر لم يعرف له سببًا، غير أنه تشاغل عنه بوضع يديه في جيوبه والبدء بالتصفير بصوتٍ حاد ومتواصل، وصار يهز رأسه على إيقاع نغمة منفرة.
عندما وصل لأول شارعهم رأى الجميع يتجمهرون في حالة من الصخب أشعرته بخوفٍ غريب، أشخاص كثيرون وبضع سيدات يتشحن بالسواد، يتكومن على الرصيف في عزفٍ جماعي من البكاء، ارتبك بشدة لما رأى وسطهن أم ليلى جارتهم، شعر بصدره يؤلمه، وببصره يزيغ، تصلبت قدماه، يرقب الضوء المتراقص لعربة الإسعاف التي تتوسط الشارع، أصابه الخوف…
الخوف؟!
أنا لم أعرفه أبدًا في وجودها، أنا حتى لم أنظر إلى وجهها قبل أن أخرج، هل انتهى كل شيء هكذا بسرعة؟ إنها بضع ساعات، لا أتحمل حجم هذا الألم، أشياء تمزق قلبي، هي جزءٌ من حياتي لكنني كل حياتها! أكانت دموعها ليلًا بسببي؟ أم أنها كانت تتألم دون شكوى كعادتها؟ هل مضت وهي غاضبة مني؟ أم راضية عليّ؟ لم أكلف نفسي عناء هذا السؤال ولو لمرةٍ واحدة.
جر خطوه بصعوبةٍ حتى وصل إلى باب البيت، كان يرتجف، بدت درجات السلم التي يألفها جيدًا كجبلٍ متعرج شديد الانحدار، كلما صعد انجذب إلى أسفل دون إرادة، بضعة مشاهد قديمة تتواصل في ذهنه، كأنه يراها لأول مرة بهذا الوضوح والنقاء، دمعه الذي كان عزيزًا صار ينهمر بعنف وهو لا يتبين كلمات الناس من حوله، عندما وصل إلى باب الشقة وجده مفتوحًا، سقط في الصالة بقلبٍ موجوع وقوى خائرة منهارة، احتضن كرسيها التي كانت جلستها المفضلة عليه، تنتظره كل يوم وفي يدها مسبحتها الكهرمان.
ظل يبكي وهو يستعرض تاريخه، الآن فقط يرى الصورة من الخارج ويدقق في كل التفاصيل المؤلمة والتي تحملتها وحيدة، لم يتحمل دقائق الوحدة تلك دونها، وضع رأسه بين كفيه، بروحٍ كسيرة وقلب يئن... شعر بأنامل مرتعشة دافئة تربت على كتفه بحنان…
"كنت في عزاء أستاذ حمدي الله يرحمه. أحضر لك العشاء؟"
شعر بحياةٍ جديدة تدب في روحه، وبفرحةٍ تغمر كيانه لم يألفها، وظل يراقبها بشهية لطعامها وكلامها الذي صار يلامسه برفقٍ أكثر وأكثر، وبقلبٍ صار يعزف نبضًا جديدًا،
وفي روحه تدفق العطر.
من قصص اليافعين - قصة: وقال يوما: أمي سيئة جدا - تأليف: وفاء محمد أبو زيد - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |