من قصص اليافعين
قصة: الهارب
"قصة خيال علمي قصيرة"
الحائزة على جائزة الجمعية المصرية لأدب الخيال العلمي
تأليف: أحمد صلاح المهدي
من قصص اليافعين - قصة: الهارب - تأليف: أحمد صلاح المهدي - القصة الحائزة على جائزة الجمعية المصرية - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
استيقظ طارق من نومه مبكرًا في السادسة صباحًا، لم يستيقظ مبكرًا بدقيقة أو متأخرًا بدقيقة عن هذا الموعد منذ مولده، المشكلة الوحيدة هي أنه نومٌ خالٍ من الأحلام، ما أن يضع رأسه على الوسادة ويغلق عينيه حتى يفتحهما في اللحظة التالية وقد مر على نومه عدة ساعات، ولكنه عرف إحساس البشر قديمًا عندما كانوا ينامون ويغلقون أعينهم فإنهم يستغرقون في الأحلام لأوقات قد تبدو للنائم ساعات أو أيام أو حتى شهور، لا يوجد حدود للزمن في الأحلام، بعض كبار السن قد عاشوا في تلك الأيام عندما كان الناس يحلمون، ويروون لأبنائهم عن الأحلام في الماضي، فكان بعضهم يستمع إلى الأحاديث بانبهار، بينما يعدها البعض الآخر خرافات القدماء.
كان يعرف أن والديه قد استيقظا في الموعد ذاته استعدادًا للذهاب إلى العمل، فالعملية كلها تدار بطريقة آلية تحافظ على دقة المواعيد، بدءًا من ايقاظ سكان البيت إلى إعداد الطعام وتغيير ملابسهم، نظام إلكتروني يحافظ على سير كل شيء بدقة الساعة.
استمع طارق ذات مرة إلى تلك الحكايات عن الحلم وانبهر بها، كان يشعر بالضجر من الآلية التي تسير بها الحياة، وتمنى لو يكون هناك مساحة للهرب من هذا الواقع ويحظى ولو لمرة بتجربة مجنونة يخرج بها عن قواعد المألوف.
كانت المشكلة تؤرق الحكومة أيضًا، ففي ظل اختفاء الأحلام أصبح الناس يستيقظون من النوم متعبين ومحبطين، ويغطى وجههم هالة من الوجوم طيلة اليوم، ولم يكن انزعاج الحكومة بسبب الاكتئاب الذي حل بالناس، ولكن بسبب نقص طاقتهم الإنتاجية وقدرتهم على العمل.
خرج طارق من بيته إلى الشوارع المرصوفة المنظمة، كانت البيوت كلها ذات هيئة واحدة ولونٍ واحد، اللافتات الإلكترونية تضيء في كل مكان، القطارات الطائرة تحلق في الهواء في مساراتها المغناطيسية المحددة تنقل الناس إلى وجهتهم، على شاشة هولوجرامية تغطي جزءا كبيرا من السماء ظهر أحد العلماء يتحدث عن طريقة لتعويض الحلم عن طريق بعض الأدوية الصناعية التي تعطي الإنسان الإحساس ذاته بالبهجة، ولكن طارق شعر أنه سيفشل كمن سبقوه، كلهم يخرجون ويزعمون الوصول إلى الحل ولكنهم يفشلون بالنهاية.
طارق فتى في الثانية عشرة من عمره، يذهب إلى نفس المدرسة التي يذهب إليها جميع أبناء مقاطعته، وعندما يبلغ الثامنة عشر ستختار له حكومته الوظيفة المناسبة، وعندما يبلغ الثانية والعشرين....
توقف عن التفكير في حياته المعدة له سلفًا، كان يقف على رصيف محطة القطار التي ترتفع به نحو الهواء، استعدادًا لاستقلال القطار الطائر، جالسًا وسط صف من التلاميذ يرتدون ملابس متطابقة، على وجههم النظرة الجامدة ذاتها. سمعوا صوت قائد القطار الآلي يستعد للانطلاق، قبل أن يحلق بهم القطار عبر السماء، وإطلاق كلمة سماء هنا مجازي، فهم لا يرون السماء بشكلٍ مباشر، بل هي مختبئة وراء الشاشات الهولوجرامية واللوحات الاعلانية، تمامًا كما يختفي كل شيء في عالمه خلف شيءٍ إلكتروني جامد.
ما أن توقف القطار الطائر أمام الرصيف حتى خرج التلاميذ واصطفوا استعدادًا للهبوط والتوجه نحو المدرسة، وما أن لامس الرصيف الأرض حتى فعل طارق شيئًا لم يخيل له أنه سيفعله ذات يوم، لم يفكر حتى في الأمر، بل بدأ يركض؛ لم يعرف لماذا يركض؟ مما يهرب؟ أحس كأنه يهرب من واقعه وعالمه كله، وعلى الفور أُضيء ضوء التحذير الأحمر، وارتبك التلاميذ، وبدأ رجال الشرطة في دراجاتهم الطائرة يطاردون التلميذ الهارب.
ورغم استعداد الشرطة لمواجهة أي طارئ، إلا أن فكرة هرب طفل من مدرسته كانت غريبة عنهم كما كانت غريبة على طارق نفسه، الذي أخذ يركض في الشوارع المرصوفة بدقةٍ شديدة، واللوحات الهولوجرامية تحدق إليه كمخلوق حي يشاهده من وراء تلك الأعين الإلكترونية.
كان يسمع صافرات الشرطة من ورائه، والتحذيرات الإلكترونية تملأ الهواء، والسائرون في الشوارع يتجمدون في موقعهم على مرأى هذا المشهد الغريب، انحرف طارق عبر عدة شوارع غريبة لم يطأها من قبل، وسرعان ما وجد نفسه أمام سور قديم، لا يشبه الأسوار الموحدة التي تحيط بكل المباني في عالمه، فتسلق السور في محاولة للهرب من أعين الشرطة، وسرعان ما قفز إلى الناحية الأخرى.
وجد طارق نفسه في حديقةٍ مهجورة، تناثرت فيها الأشجار هنا وهناك، ونمت بشكلٍ عشوائي بعدما طالتها يد الإهمال، كان هذا منتزه المقاطعة القديم والذي أغلقته الحكومة تمهيدًا لإزالته تمامًا، فلا مجال للتنزه في عالم عملي يسير بدقةِ الساعة، فظل مهجورًا منذ ذلك الوقت.
أحس طارق بشيء من الارتياح لمرأى تلك الأشجار رغم عشوائيتها، بل لعل تلك العشوائية هي ما مالت إليه نفسه التي أنفت من المبالغة والتشديد في النظام، وأسعدته رائحة الأعشاب الندية الرطبة في الصباح، ولكن أشد ما أثار عجبه هو رؤيته للسماء الزرقاء من بين أفرع الأشجار.
فجأة انفتحت الأبواب بعنف ودخلت الشرطة لتمسك بالفتى الهارب، لا شك أنهم قد عرفوا بوجوده في هذا المكان من خلال أنظمة المراقبة، وهكذا اقتادوه وهو يحتج ويصرخ نحو مدرسته، كان يعرف أنه سيتعرض للعقاب ولكنه لم يبال، فمشهد المنتزه القديم قد أيقظ في روحه أشياء كثيرة يتوق إليها دون أن يعرفها.
كان عليه طيلة اليوم أن يقوم ببعض الأعمال الشاقة في المدرسة التي تقوم بها الآلات في المعتاد، وعاد إلى بيته متعبًا ومنهكًا، وسرعان ما استغرق في النوم، ولكنه في هذه الليلة حلم... حلم بالمنتزه القديم والأشجار ورائحتها، وعندما استيقظ في الصباح التالي بدأ يصرخ: "أنا حلمت، أنا حلمت."
سيخبر أسرته، سيخبر أصدقاءه، سيخبر كل من تقع عليه عينيه أن يذهب إلى المنتزه القديم، أن يعرفوا ما الذي فاتهم، تمنى أن يرى الأشجار في كل مكان في مقاطعته، أن يرى البيوت مختلفة الأحجام والألوان، أن يزيل اللوحات الهولوجرامية التي تغطي السماء، أن يحطم تلك الساعة التي تدير كل شيء!
ــ تمت ــ
---------------------------------------------
للمزيد من قصص وأعمال الكاتب: أحمد صلاح المهدي يمكنكم الاطلاع على مواضيع الأقسام التالية: أحمد صلاح المهدي وقصص الأطفال وقصص اليافعين.
---------------------------------------------لقراءة المزيد من قصص وإبداعات الكاتبات والكتاب في موقع (كيدزوون | Kidzooon) بإمكانكم الضغط على اسم الكاتب أو القسم المناسب لكم، وذلك من القائمتين الجانبيتين المعنونتين باسم: الأقسام والفروع.
---------------------------------------------تم النشر بطلب من كاتب القصة: أ. أحمد صلاح المهدي.
---------------------------------------------