من المجموعات القصصية لليافعين:
قصة: سنجمعُ الرّحيق (1)
من المجموعة القصصية لليافعين: شتاء القلوب الدافئة
تأليف: عماد كوسا
من المجموعات القصصية لليافعين - قصة: سنجمعُ الرّحيق (1) - تأليف: عماد كوسا - من المجموعة القصصية لليافعين: شتاء القلوب الدافئة - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
كانت خليّةُ النّحل تشعر بالامتنان البالغ لشجرة الجوز العجوز، فطوال أعوام بقيت الخليّةُ هنا في مأمَنٍ من أعدائِها الدّبابير الحُمر. على ضفافِ النَّهر نمت هذه الشّجرة حتى بلغَ عمرُها مئاتِ السّنين، كانت قد احتضنت الكثير من كائنات الغابة، وحمتهم من الأعاصير، ومن الوحوش المفترسة، كما أنّها أنعمت بأوراقها النّدية على البعض الآخر، لذلك فقد كان الجميع يحبّ الشّجرة العجوز، ويكنّ لها بالغ الاحترام والتقدير.
واستقرّت خليّةُ النّحل في تجويفٍ صغيرٍ من تجاويف جذع الشّجرة، إنّها لا تهدأ. بَنَت في هذا التّجويف أقراصًا من الشّمع تملؤها حينًا بالعسل، وتحتمي بها حينًا آخر من البرد، وتضع فيها البيوض التي ستفقس عن صغارها بعد حين.
من المجموعات القصصية لليافعين - قصة: سنجمعُ الرّحيق (1) - تأليف: عماد كوسا - من المجموعة القصصية لليافعين: شتاء القلوب الدافئة - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
دعونا ندنو أكثر من باب الخليّة ذو الشّكل البيضويّ الصّغير لنعرف مصدر هذا الطّنين الّذي يملأ الجوّ صخبًا، إنّها الملكة هناك في وسط الخليّة توجّه أوامرها دون أن تهدأ، لا يسكن لها قرار وهي تتجوّل في أرجاء مملكتها؛ لتتفقّد العمل وتطمئنّ على الأفراد، وتضع الخطط الّتي تحفظ حياةَ الجميع. إنّها تبدو أكثر نشاطًا هذا اليوم، لأنّ العاملات من النّحل قد جلبْن الكثير من حَبّ الطّلع ورصصْنه في الحجرات السّداسية، وختمْن الكثير من الأقراص، لكنّ أمرًا ما يقلقها، إنّها تشعر حقًا أن خطرًا داهمًا يهدّد حياة الخليّة ونظامها الدّقيق.
كانت تراقب العاملات ينطلقن دون كلل لجلب المزيد، وما أجمل الإنجاز الّذي يفيد الجميع! لكنّها لا تجدُ نحلةَ القطن.
وقفَ عددٌ من الذّكور على البوّابة يحرسون المكان متيقّظين لأيّ هجومٍ طارئ من الدّبابير، وقد اتّخذوا كلّ التّدابير لحماية المجموعة إمّا بسدِّ البوّابة أو بإيقاع الدّبور في الفخّ، حيث يتقدّم أحد الحرّاس يتصدّى للدبّور المهاجم، فيلاحقه الدبّور بينما يطير الحارس بعيدًا عن الخليّة ثمّ يتبعه عدد آخر من الحرّاس الّذين يشتّتون انتباه المفترس ويعودون سريعًا إلى خليّتهم.
تقدّمت الملكة من البوّابة وسألت أحد الحرّاس:
"هل عادت نحلةُ القطن؟"
"كلاّ سيدتي، لقد خرجت منذ بزوغ الشّمس ولم تعد البتّة." أجاب الأمين
هزّت الملكة رأسها وعادت الهوينى لتتابع عملها: "لا بدّ أن تعاقبَ نحلةَ القطن على تأخّرها."
عند الصّباح الباكر، وبعدَ أن حيَّتْ أشعّةُ الشَّمس أوراقَ الشَّجر، وأيقظت كائناتِ الغابة، ودَبَّ النّشاطُ فيها لتسعى إلى رزقها في هذا اليوم الجديد، كانَ على نحلةِ القُطن أنْ تنطلقَ مع صديقاتها للبحث عن الأزاهير النّديّة لتمتصّ رحيقها، وتجمع ما عليها من غبار الطّلع. لكنّها كانت تفكّر طوال اللّيلة الماضية بحياتها في هذه الخليّة، وتبحث عن حلّ. صحيح أنّ الجميع يحبّها ويطلقون عليها لقب نحلة القطن لأنّها تحبّ أزاهير القطن أكثر، لكنّ أمورًا أخرى باتت تقلقها جدًا. وفي الطّريق توجَّهت إلى صديقاتها من العاملاتِ قائلةً:
"أشعرُ بالمللِ من هذا العمل المتكرر."
من المجموعات القصصية لليافعين - قصة: سنجمعُ الرّحيق (1) - تأليف: عماد كوسا - من المجموعة القصصية لليافعين: شتاء القلوب الدافئة - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
تفاجأت صديقاتُها العاملات، بينما استمرّت هي تقول:
"نحن نتعبُ في جمع الرّحيق كلَّ يوم، وغيرُنا يبقى في الخليّة متكاسلًا ليس له عملٌ سوى الأكل والشّرب."
صاحت رفيقاتها في استغراب:
"مَن تقصدين؟"
قالت النّحلةُ وهي تحطُّ على زهرةِ أقحوانٍ بيضاء:
"الذّكورُ لا يعملون أبدًا، والحرَّاس يقضون وقتًا طويلًا أمامَ باب الخليّة دون حركة، والمجموعة الّتي تبقى ملاصقةً لسيّدتنا الملكة أيضًا ليس لها دور. وأنا أكدُّ كلّ يوم بحثًا عن أزهار القُطن لأعود لهم بالرّحيق."
سَخِرت العاملاتُ من كلامها، وردَّت إحداهُن:
"إنّكِ لا تدركين معنى الخليّة، إنَّ خليتنا مجموعةٌ متكاملةٌ، ولكلِّ فرد من أفرادها دوره الخاصّ، ودورُنا هو جمْع الرّحيق."
حرَّكت نحلةُ القُطن أجنحتها وقفزت إلى زهرةٍ أخرى وهي تقول:
"فكّرت مليًّا في الأمر، وأدركتُ أنّ بوسعي بناء مملكتي الخاصّة."
قهقهت إحدى صديقاتها وقالت:
"لكنّكِ لا تستطيعين وضع البيوض، الملكة وحدها من تفعل ذلك."
صاحت نحلة أخرى من على زهرة شقائق النّعمان:
"ومن يحميكِ من الدّبابير أيّتها الغبيّة؟"
رفعت رأسها غاضبةً وأجابت:
"لا حاجةَ لي بعد اليوم إلى الخليّة، ولا حاجة لي إلى الحرّاس وغيرهم، سوف أعمل وحدي لأجني ثمار تعبي."
اقتربت منها صديقتها وقالت:
"لا بدّ أنّكِ تمزحين، لا يمكنكِ البقاء على قيد الحياة وحدك. "
صاحت نحلة القطن:
"سترون كيف أبني مملكتي وأحمي نفسي من الدّبابير، سأعمل لأجني ثمار تعبي، ولن أدع أحدًا يقاسمني ثمرة مجهودي."
قالت صديقتها غاضبةً:
"إنّكِ أوّل نحلة في تاريخنا تفعل ذلك. ستغضب الملكة كثيرًا وقد تعاقبك أشدّ العقاب."
حطّت إحدى النّحلات العاملات على بوّابة الخليّة حاملةً تحت جناحيها ما استطاعت من حبّات الطّلع، وقبل أن تدخل أوقفها الحرّاس وقالوا لها:
"هل رأيتِ نحلة القطن؟ إنّ الملكة تسأل عنها."
تردّدت النّحلة قليلًا في الإجابة لكنّها تشجّعت قائلةً:
"سأخبركم بما سمعت، إنّها تفكّر في مغادرة الخليّة، وبناءِ مملكتها الخاصّة."
صرخ الحرّاس مشدوهين:
"ماذا؟ هل أصابها الجنون؟ هذا سيكلّفها الكثير."
وسرعان ما وصل الخبر إلى الملكة الّتي لم تصدّق ما سمعت بادئ ذي بدء، إلاّ أنّها أدركت خطورة الأمر لو كان ما تفكّر به نحلة القطن صحيحًا. فأوعزت إلى الحرّاس أن يبحثوا عنها في الحال ويعيدوها إلى الخليّة.
انطلق الحرّاس في الحال متوجّهين إلى حقل الزّهور حيث أشارتْ لهم النّحلة العاملة؛ ليعودوا بنحلة القطن إلى الخليّة.
كانت نحلةُ القطن تقول لصديقاتها:
"سأعيش في خليّتي الخاصّة دون أن أتلقّى الأوامر من الملكة المتعجرفة."
ثمّ حلَّقت عاليًا وحوَّمت حول رفيقاتها، بينما كانت رفيقاتها تلوِّحْنَ لها أن تبقى ولا تتّبع طيشها.
لكنّ النّحلةَ راحت تحلّق مبتعدةً، وهي تصيح:
"الوداع... الوداع."
من المجموعات القصصية لليافعين - قصة: سنجمعُ الرّحيق (1) - تأليف: عماد كوسا - من المجموعة القصصية لليافعين: شتاء القلوب الدافئة - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
فكّرت النّحلات فيما يمكن أن يفعلنه لإنقاذ صديقتهنّ، فقرّرن العودة سريعًا إلى الخليّة لإخبار الملكة بالأمر، وفي الطّريق صادفن الحرّاس، فأخبرنهم أنّ نحلة القطن فارقت الخليّة لتعيش وحيدةً.
سأل الحرّاس عن الوجهة الّتي اتّخذتها نحلة القطن، وسرعان ما انطلقوا خلفها.
أدركت نحلةُ القُطن منذ الوهلة الأولى أنّ بإمكان الحرّاس أن يتبعوها بكلّ سهولة، ويجدوا مكانها ويعيدوها إلى الخليّة رغم أنفها، لذلك فقد قرّرت التّوجه إلى حقل القطن الّذي اكتشفته منذ يومين، ولم تخبر به أحدًا، إنّه حقلٌ واسع يحوي ملايين الزّهور البيضاء المختبئة خلف أشجار الجوز الباسقة، الّتي لم يفكّر النحل حتّى اليوم باكتشاف ما وراءها، فهناك سوف تكتسب رائحة أخرى، وتغيّر من طنينها، وتتنقّل من زهرة إلى أخرى ليضيع أثرها في الحقل الشّاسع.
فرحت النّحلةُ كثيرًا عندما وصلت إلى حقل القطن المليء بالأزاهير البيضاء النديّة، كانتْ تحبُّ أزهارَ القُطن المفيدة، فراحت تغنّي بسرور:
"سأجمعُ الرّحيق
في بيتيَ الأنيق
وأصنعُ العسل
بجدٍّ لا كسل
وأقطعُ الدّروب
وحدي بلا وجل
أبحث عن زهرٍ جميل
أنا وحدي بلا دليل
وأجمعُ الرَّحيق
وحدي بلا صديق
وأمضي وحدي
أعيشُ وحدي
أعملُ وحدي
وحدي وحدي
ليس من رفيق"
من المجموعات القصصية لليافعين - قصة: سنجمعُ الرّحيق (1) - تأليف: عماد كوسا - من المجموعة القصصية لليافعين: شتاء القلوب الدافئة - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
بحثت النّحلةُ عن مكانٍ آمنٍ تختفي فيه عن أنظار الحرّاس، وعن الدّبابير الخطرة. فوجدت شجرة جوز عملاقة على أطراف حقل القطن سمحت لها أن تتّخذ من أحد تجاويفها مسكنًا لها.
لكنّ الشجرة قالت:
"كيف بإمكان نحلةٍ وحيدة بناء خليّة؟"
أجابتها النّحلة:
"سترين أيّتها الشجرة الطيّبة، وستكونين شاهدة على قدراتي."
اختفت النّحلة في تجويف شجرة الجوز بعد أن غيّرت رائحتها وطنينها وراحت ترتّب بيتها الجديد بهمّة عالية.
استطاع الحرّاس تعقّب الطّنين ورائحة نحلة القطن حتّى وصلوا إلى حدود سهل واسع، ووقفوا أمام أشجار الجوز الكثيفة، تفاجؤوا بتلاشي رائحة النّحلة، فعبق الجوز يطغى على كلّ الرّوائح.
لكنّها هنا في مكان ما، صاح أحد الحرّاس، فجأة:
"نعم إنّها هنا، في أحضان شجرة جوز ما، في هذا السّهل الّذي لا نجد له نهاية."
"هل سنبحث عن إبرة في كومة قشّ؟"
"وهل نعود إلى الملكة خائبين؟"
تردّد الحرّاس كثيرًا في اتّخاذ القرار المناسب، انتظروا مفاجأة قد تحدث، ولمّا طال انتظارهم قرّروا العودة.
كانت الشّجرة العجوز تحاول أن تهدّئ من روع الملكة وهي تقول لها:
"لا بدّ أن تعود نحلة القطن، فلم أسمع في حياتي أن عاشت نحلةٌ بمفردها."
أجابتها الملكة:
"نعم أيّتها الشّجرةُ الحكيمةُ، أعلم أنّه لا توجد نحلةٌ يمكن أن تعيش بمفردها، وهذا ما يقلقني جدًا، فنحلة القطن قد ترتكب حماقةً."
أجابتْها الشّجرةُ العجوز:
"لا تقلقي أيّتها الملكة، أظنُّ أنّها ستعودُ قبل حلول الظّلام."
"أتمنّى ذلك، لكنّني قلقة من تهوّرها."
من المجموعات القصصية لليافعين - قصة: سنجمعُ الرّحيق (1) - تأليف: عماد كوسا - من المجموعة القصصية لليافعين: شتاء القلوب الدافئة - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
وعندما عاد الحرّاس وأخبروا الملكة بفرار نحلة القطن، وقرارها في العيش مستقلة. ازدادت غضبًا، وراحت تصرخ:
"من تظنُّ نفسها هذه النّحلة الصّغيرة؟"
تجمّعت العاملات من حول الملكة وأخبرنها أنّهنّ حاولن ردعها وإقناعها بالعدول عن فكرتها، إلا أنّها أصرّت على خوض تجربتها.
سألت الملكة:
"وهل تعلمون وِجهتها، هل أفصحتْ عن مكانٍ ما قصدته؟"
أجابت النّحلات العاملات:
"كلاّ، إنّها لم تفصح عن ذلك البتّة."
صرخت الملكة:
"علينا بالبحث عنها، وإنقاذها مهما كلّف الأمر."
وفي حقل القطن هبط الظّلام سريعًا، ووجدت نحلة القطن مكانها دافئًا بما فيه الكفاية، وتبادلت أطراف الحديث مع شجرة الجوز قبل أن تخلد للنّوم.
وفي اليوم التالي، استيقظتْ قبل شروق الشّمس، فأمامها عملٌ شاقٌ، في مملكتها الجديدة، أعجبَها شذى شجرة الجوز الزّكية، فراحت تحلّق بين أغصانها وتداعب أوراقها وتستكشف المكان جيّدًا، أحسّت بالغبطة، إنّها ستكون مليكة هذا المكان الفسيح، يبدو المكان آمنًا، فشجرة الجوز تنشر أذرعها في محيط واسع، وتصنع بأوراقها ظلًّا وارفًا.
من المجموعات القصصية لليافعين - قصة: سنجمعُ الرّحيق (1) - تأليف: عماد كوسا - من المجموعة القصصية لليافعين: شتاء القلوب الدافئة - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
وعندما بزغت الشّمس همّت بالانطلاق نحو حقل القطن لتبدأ في صنع الشّمع فتأسّس به خليّتها، وتصمّم المدخل الّذي سيحميها من الدّبابير، وتختار النّموذج الأنسب لأقراص العسل.
وقبل أن تحلّق النّحلة نادتها شجرة الجوز:
"أيتّها النّحلة إذا كنتِ ستحلّقين نحو قرص الشّمس، راقبي جدول الماء، لتخبريني هل بدأ بالتّدفّق إلى هنا."
ردّت النّحلة على عجل:
"نعم بكلّ تأكيد، سأبحث عن جداول أخرى قد تجد طريقها إلى هنا."
في خليّة النّحل، كانت الملكة تأمر الحرّاس بأن يتوزّعوا في كلّ مكان ويبحثوا جيّدًا عن النّحلة المفقودة، كما أمرت العاملات أن تتبعن رائحة رفيقتهنّ علّهنّ تصلن إلى شيء. لقد ساد جوّ حزين في جميع أرجاء الخليّة، فهناك أحد الأفراد في خطر.
تفاجأت نحلة القطن بالمساحات الشّاسعة البيضاء الممتدّة من تحتها، والمسيّجة بإطار أخضر من أشجار الجوز العملاقة. ابتهجت كثيرًا فهي لم تعد بحاجة للبحث عن الأزهار المناسبة، وإضاعة الوقت محلّقة دون جدوى، إنّها الآن تستطيع أن تستثمر كلّ وقتها في العمل، فأمامها ملايين الأزهار البيضاء، ستحطّ عليها وتجمع منها غبار الطّلع والرّحيق.
لكنّها قبل أن تباشر في عملها أرادت أن تفي بوعدها لشجرة الجوز وترى إلى أين وصلت مياه الجدول. طافت في المكان متحمّسةً، فهي تريد أن تقدّم خدمةً جليلةً لصديقتها الّتي احتضنتها بالأمس. هبّت متشوّقةً تتبع مجرى الجدول إلى أن وقعت عيناها على المياه، إنّها تتدفّق من هناك، من أعالي الجبال، وتخترق الصّخور وجذوع الأشجار، وتحفر مجراها نحو أشجار الجوز، سيمتلئ المجرى بالماء عمّا قريب.
لم تكتفِ بذلك بل راحت تحلّق في الأجواء لترى إن كانت هنالك جداول أخرى قد تسيل نحو حقول الجوز، لكنّها انتبهت لأمر مهمّ، فهي وحيدةٌ ولا يوجد حرّاس لحمايتها من الدّبابير، لذلك يجب أن تتوخّى الحذر ولا تبتعد كثيرًا.
رجعت محمّلة بالكثير من غبار الطّلع، وأخبرت شجرة الجوز عن الجداول المتدفّقة نحوها، ثمّ بدأت بصناعة الشّمع وتحديد المدخل، أمامها عملٌ مجهد. ظلّت تروح وتجيء دون كلل، دؤوبة تعمل بكدّ، بينما كانت شجرة الجوز تزداد إعجابًا بإقدامها وتفانيها في العمل.
وسرعان ما صارت الأقراص جاهزةً لتمتلئ بالعسل، كانت فرحتها لا توصف. وكذلك كانت شجرة الجوز، تفرح بحذر لوجود صديقة نشيطة في جوارها.
في خليّة النّحل كان اليأس قد دبَّ في قلوب الجميع، فرفيقتهم لا أثر لها، وبدأت تسري الشّائعات.
يقولون إنّها هاجرت بعيدًا، أبعد من أيّ مكان يمكن أن يصّله الحرّاس.
قد تكون الآن قد بنت مملكتها الخاصّة كما كانت تتمنّى.
لا بدّ أنّها نادمةٌ وتخطّّط للعودة.
هل ستقبلُ بها الملكة ثانيةً؟
ربّما وقعت فريسةً لدبّور جائع.
إلى جانب ذلك بدأت أفكار أخرى تسري بين العاملات، حين يتذكّرون كلام رفيقتهنّ، وبدأت أصوات عديدة تعلو دون حياء:
«لماذا لا نفعل مثلها، ونبحث عن حقلٍ آخر نملك فيه كلّ شيء؟»
«هل حقًا نحن نعمل حتّى يجني الآخرون ثمار تعبنا؟»
«الملكة المتغطرسة لا تجيد سوى إعطاء الأوامر.»
ولم تكن الملكة بمنأى عمّا يجري، بل كانت تسمع اللّغط والهرج، فيزداد خوفها من انفراط عقد الخليّة، كانت تصمت وتنتظر أمرًا ما.
ومرَّت أيامٌ واشتاقت النّحلة إلى رفيقاتها، لأنَّها لم تعتَدْ العيشَ وحدها من قبل، إلاّ أنّها لم تكن تحبّ الهزيمة.
من المجموعات القصصية لليافعين - قصة: سنجمعُ الرّحيق (1) - تأليف: عماد كوسا - من المجموعة القصصية لليافعين: شتاء القلوب الدافئة - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
بدأت تشعر أن ساعات النّهار لم تعد كافية لإنتاج ما تريد. كانت تمضي وقتًا طويلًا جدًّا في صنع الأقراص، ورغم ذلك لم تملأ إلاّ بعض الحجرات بالعسل. كما أنّها انتبهت إلى الخلل الواضح في تصميم الأقراص، وإلى الثّغرات في البوّابة، إنّها تنفق الكثير من الوقت في إنتاج القليل من العمل، فاستشارت شجرة الجوز.
في الصّباح الباكر وقفت النّحلةُ أمام مدخل خليّتها وراحت تسأل الشّجرة:
"أيّتها الصّديقة، أنا أكدُّ طوال اليوم وأحرص على الوقت، لكنّي لا أجد في المقابل إنجازًا أحرزته."
قهقهت الشّجرة ومالت بأغصانها، ثمّ قالت:
"هذا أمرٌ طبيعيّ، ماذا بمقدور نحلةٍ وحيدةٍ أن تنجز؟"
أردفت العنيدة: "والأقراص الّتي أصنعها ليست كأقراص خليّتنا الكبيرة المتقنة."
تنحنحت الشّجرة وأجابت:
"لأنّ الملكة كانت تدير الأمر بخبرتها المعهودة. ورفيقاتك يضفن من جهدهنّ وخبراتهنّ، لذلك فأنتِ تحتاجين إلى المزيد من الوقت لاكتساب الخبرة وإتقان عملك."
حلّقت النّحلةُ وقد هدأ بالها قليلًا، وكانت تقول وهي تبتعد عن الشّجرة:
"إذا كان الأمر يتعلّق بالوقت فسأتعلّم وأكتسب الخبرة."
فاح شذى العسل في المكان، وتسـرّب من بين أوراق الأشجار وأعناق الزّهور؛ ليكوّن عبيرا جديدا يضاف إلى عبق المكان.
وتتبّعت الدّبابيرُ رائحةَ العسل حتى وجدت مكانه.
"غريب! لا يوجد حرّاسٌ هنا؟"
"احذروا! فقد يكون فخًّا."
اقتربت الدّبابير بحذر من التّجويف وهم يراقبون المكان.
"لا يوجد حرّاس، رائحة العسل الشّهي تملأ المكان."
"المدخل واسعٌ وبإمكاننا الولوج بسهولة، هيّا... إلى العسل!"
كان الهجوم في غاية البساطة، كان المكان خاليًا تمامًا إلاّ من أقراص العسل الشهيّ. كانت الدّبابير في غاية السّعادة. عادت النّحلة فوجدت الأقراص فارغة من العسل: "يا إلهي! لقد ضاع جهدي سدى." صاحت بجنون:
"من الّذي اقتحم بيتي؟ من التهم العسل؟"
وجاءها الجواب من الشّجرة:
"لم أستطع فعل شيء، لقد هجمت الدّبابير بكلّ بساطة، وسَطَوا على كلّ شيء."
"آه! الدّبابير!" تنهّدت ضئيلة الحجم، "لم أكن أحسب أنّهم سيصلون إلى هنا، كنتُ أظنّ أنّ أوراقك العريضة سوف تخبّئ بيتي، لكنّ رائحة العسل فاحت وانتشرت في كلّ مكان. والمدخل واسعٌ بما يكفي لدخول دبّور."
انهارت النّحلة وهي تراقب الخراب الّذي طال بيتها، ولا تدري كيف يمكن أن تبدأ من جديد، وتحمي نفسها من الدّبابير.
في اليوم التّالي، لم تذهب إلى حقل القطن، أرادت أن تحرس بيتها، وترى إن كانت الدّبابير ستعود ثانية. اختبأت في مكانٍ قريب، وراحت تراقب بحذر شديد، ولم يمضِ وقت طويل حتّى عادت الدّبابير بأعداد كثيرة، وطافت في المكان ودخلت عبر المعبر، وفتّشت عن بقايا العسل. كانت النّشيطة تتحرّق أسىً ولوعة؛ إذ لم تكن قادرةً على حماية مخزونها من العسل؛ لأنّها لم تعمل سابقًا في الحراسة، وكان هناك على الدوام من يحفظها في الخلية.
احتارت النّحلةُ في أمرها، ولم تعرف ماذا تفعل أو كيف تتصرّف، فقد كان هناك من يدبِّر أمورَ الخليّة على الدّوام.
وعندما كانت تسأل شجرة الجوز كانت تجيبها بأن لا خبرة لها في أمور النّحل.
من المجموعات القصصية لليافعين - قصة: سنجمعُ الرّحيق (1) - تأليف: عماد كوسا - من المجموعة القصصية لليافعين: شتاء القلوب الدافئة - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
وفي الغد، وبينما كانت تنطلقُ إلى حقل القُطن تفاجأت بسربٍ من الدّبابير الكبيرة الّتي اعتادت أن تتصيَّد النحلات الشاردة تتبعها. أسرعت النّحلةُ المسكينةُ هاربةً وهي تستنجد وتصيح: "أنقذوني... أنقذوني..."
لم يكن هناك أحد يسمع زعيبها. وهي تعلم أن الدّبابير تفوقها سرعةً، وأنّهم سيلتقطونها بسهولة.
وهاهيّ حياتُها كادت تكون ثمنًا لقرارها المتسرّع! حينها قرّرت في نفسها أنّها إذا نجت اليومَ فيجب أن تعود إلى الخليّة، لقد شعرت الآن بمعنى الأمان، تكادُ أنفاسُها تنقطع.
كانت الدّبابير قريبةً جدًا حتّى إنّ طنينها أصبح كالهدير. أدركت النّحلةُ المتعبة أن لا فائدةَ من الهرب وكادت تستسلم لولا أنّها رأت جذعَ شجرةٍ قريبةٍ فيها ثقبٌ صغيرٌ جدًا، فدفعت بنفسها نحوه واختفت فيه.
الدّبابير تحيطُ بالمكان وأصواتُها تثير الرُّعب، لكنَّ نحلةَ القطنِ كانت متكوِّمةً في الثّقب الّذي لا تستطيع دخوله الدّبابيرُ الكبيرة.
«لماذا لم أجعل مدخل بيني صغيرًا بحجم هذا الثّقب؟ كنتُ أعيب على خليّتنا بوّابتها الضيّقة. الآن، فهمت الحكمةَ من جعلها صغيرة... آه! لقد فات الأوان. »
ظلّت النّحلةُ المسكينةُ محبوسةً الثّقب حتّى هبط اللّيل، وعندما اختفت أصواتُ الدّبابير تسلّلت بهدوء وحذر، وشقّت طريقها عبر الأشجار لتذهب إلى ضفاف النّهر؛ لتبيت هناك.
ومع إشراقة الصّباح حوَّمت حول المكان تبحث عن رفيقاتها اللّاتي يأتين لجمع الرّحيق حتّى وجدت مجموعة من العاملات تتنقَّلْنَ من زهرةٍ إلى أخرى في مكان قريب. أسرعت النّحلةُ إليهنّ وبدأت تبادلـهُنَّ تحايا الشَّوق والتّرحيب.
قالت النحلةُ لرفيقاتها:
"هل تفقَّدَتْني الملكة؟ هل علمتْ بغيابي؟"
من المجموعات القصصية لليافعين - قصة: سنجمعُ الرّحيق (1) - تأليف: عماد كوسا - من المجموعة القصصية لليافعين: شتاء القلوب الدافئة - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
أجابت إحداهنّ:
"أجل، لقد غضبت سيّدتنا الملكة كثيرًا، بل وحزنت عليكِ، لأنّها تعلم أنّك لا تستطيعين العيش لوحدك، ولا تملكين القوة للدّفاع عن نفسك، فربّما يأكلك دبّور جائعٌ أو جرادٌ عابر، أو يقضي عليك النّمل الأسود."
قالت نحلةٌ أخرى:
"لقد كانت ترسل الحرّاس كلّ يوم للبحث عنك."
لكنّ نحلة أخرى اقتربت منها وهمست في أذنها:
"أخبرينا عن حياتك الجديدة، كيف عشتِ وحدكِ؟ وهل بإمكاننا أن نفعل مثل؟ هناك الكثير من العاملات يفكّرن مثلك."
نهرتهنّ النّحلة، قالت محذّرة:
"كنتُ أظنّ أنّي قادرةٌ على فعل كلّ شيء بمفردي، لكنّي تعلّمت أمرًا ما كنت لأتعلّمه لو بقيت في خليّتنا."
فسألنها بصوت واحد: "ماذا تعلمتِ؟ أخبرينا."
توقّفت النّحلة قليلًا ثمّ تنقّلت إلى زهرة أخرى وبدأت تقول:
"تعلّمتُ أنّني لا أساوي شيئًا بعيدًا عنكم."
أضافت نحلة أخرى:
"لقد علَّمَتنا الملكة أنْ نتعاون دائمًا حتّى تستمرَّ حياةُ الخليّة، وإذا شذَّ فردٌ أو تقاعس فإنّه يفتحُ ثغرةً خطيرةً يجب سَدُّها. "
قالت نحلةُ القُطن: "أريد العودة."
وانطلق الجميع مسرورين نحو القفير، ليفاجؤوا الملكة وباقي الأفراد بعودة صديقتهم المفقودة. أسرعت نحلة القطن إلى سيّدتها الملكة الّتي كانت غاضبةً جدًا، طالبة الصّفح:
"سيّدتي الملكة، أرجو أن تسامحيني على خطئي، لم أكن أعرف قيمة التّعاون."
قالت الملكة: "وهل تعلّمتِ الآن؟"
قالت النّحلة: "بل تعلّمتُ أكثر من ذلك، لن أفارقكم ما حييت."
ضمّتها الملكة بحنان وهي تقول:
"أهلًا بكِ في خليّتك أيّتها النّحلة المشاغبة."
حلّقت نحلة القطن حول الجميع وراحت تقول:
"لقد وجدتُ حقلًا مليئًا بأزهار القطن."
فرحت القائدة وقالت للنّشيطة:
"شكرًا! لأنّك متعاونة، لقد قدّمتِ بهذه المعلومة فائدةً كبيرةً للجميع."
وفي اليوم التّالي، أنشدت جميعُ العاملاتِ كلمات أغنية النّحل المشهورة، وهُنَّ في طريقهنَّ إلى حقلِ القطن:
"سنجمعُ الرّحيق
في بيتنا العتيق
ونصنعُ العسل
بجدٍ لا كسل
ونقطعُ الدّروب
معًا بلا وجل
نبحثُ عن زهرٍ جميل
جميعنا بلا دليل
ونجمعُ الرّحيق
ونصنع العسل
لنمضي معًا
جميعنا معًا
إلى حقلِ القطن
إلى زهرِ القطن"
من المجموعات القصصية لليافعين - قصة: سنجمعُ الرّحيق (1) - تأليف: عماد كوسا - من المجموعة القصصية لليافعين: شتاء القلوب الدافئة - موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
---------------------------------------------
لقراءة باقي قصص المجموعة القصصية: شتاء القلوب الدافئة
---------------------------------------------
للمزيد من قصص وأعمال الكاتب: عماد كوسا يمكنكم الاطلاع على مواضيع الأقسام التالية: عماد كوسا وقصص الأطفال وقصص اليافعين.
---------------------------------------------لقراءة المزيد من قصص وإبداعات الكاتبات والكتاب في موقع (كيدزوون | Kidzooon) بإمكانكم الضغط على اسم الكاتب أو القسم المناسب لكم، وذلك من القائمتين الجانبيتين المعنونتين باسم: الأقسام والفروع.
---------------------------------------------تم النشر بطلب من كاتب القصة: أ. عماد كوسا.
-------------------------------------