ملتقيات ومؤتمرات:
مداخلة في الأدب البيئي
مالك الشويّخ / أستاذ وكاتب في أدب الطفل.
تجربتي في الأدب البيئي للأطفال واليافعين.
ألقيت هذه المداخلة في الملتقى العربي لأدب الطفل، في الدورة الحادية عشرة 2020 بمدينة العلوم تونس، وقد خصّص الملتقى للقصّة البيئية الموجّهة للأطفال واليافعين.
من ملتقيات ومؤتمرات - مداخلة في الأدب البيئي - تجربة في الأدب البيئي للأطفال واليافعين - للأستاذ والكاتب: مالك الشويّخ- موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
نكتب عن البيئة منذ فترة طويلة وما يكتب عنها سميّ أدبا بيئيا، المصطلح جديد وجذّاب، ويعود ذلك لما للبيئة من أهمّية في حياتنا، فالعناصر الأربع: الماء والهواء والتراب والنار قد كانت محور تفكير القدامى وكتبتُ عنها وأنا لا أقصد أن أكتب قصّة بيئية بل أريد أن أكتب عن الحياة، وحياتُنا وحياة البشرية لصيقة بهذه البيئة وبهذه العناصر الأربع لذا فالموضوع هامّ وإن لم نكتب فيه فسيكتبنا هو ويسطّر حياتنا.
ما سأقدّمه هو شهادة بسيطة من كاتب كتب للأطفال واليافعين عدّة أعمال وسأهتمّ بصورة رئيسيّة بثلاث قصص لي منشورة ضمن سلسلة " مكتبة الطيور " والقصص هي سيّدة الألوان نشرت سنة 2006، وقصّة سلسبيلة ونشرت سنة 2008، وقصّة البحر يضحك من الأعماق ونشرت سنة 2016.
أوّلا: المواضيع التي تناولتها في قصصي أو البيئة والنزيف المتواصل.
· الشّجرة المباركة: ثنائية التدمير والإحياء.
يتعلّق الأطفال بالقصص الخيالية التي تكون شخصياتها من الحيوانات فما بالك لو كانت حيوانات يحبّها الأطفال، وفي قصّة سيّدة الألوان التي كانت شخصياتها من الحشرات اخترت الفراشة لتكون الشخصية الرئيسية. انطلقت الفراشة سيّدة الألوان في بداية القصّة في جولة في الغابة وهي الإطار المكاني الّذي تدور فيه أحداث القصّة، خرجت مع صديقتها بنت عيد الدعسوقة الحمراء وفي سرد خطّي تسلسلت الأحداث القصصيّة متشعّبة لتعرض علينا التحديّات التي تهدّد وجود الغابة فمن أوساخ وإهمال، إلى حرائق تفتك بالأخضر واليابس، إلى آفات قاتلة كالحشرات الضّارّة مثل الجراد إلى سموم النفايات المدمّرة.
وقد جاء في القصّة وصف لمختلف مظاهر الدّمار، فبعد أن هاجم التنّين أبو لهب الغابة واشتعلت النيران وحلّ الدّمار بحلوله، وأورد المقطع الوصفي التالي لتصوير ما حلّ بالمكان في ص 13:
"ماتت الكثير من الكائنات محترقة وهلكت حشرات نادرة لا مثيل لها في الغابات الأخرى واكتسى أديمُ الأرض بطبقة من السواد وتفحمت جذوع كثيرة وشحّ الطعام وقلّ."
وأورد مقطعا وصفيا ثانيا بعد أن زحفتْ جحافلُ الجراد جاء في ص 23:
"انْتَشَرَ الجَرادُ في أركانِ الغابَةِ، وصَرَخَتْ الأشجارُ مُوَلْوِلَةً، وطَقْطَقَتْ الأوْراقُ تحْتَ الأسْنانِ المِنْشارِيَةِ الحَادَّةِ التي لا تَرْحَمُ ولا تُبالي بِتَوَسُّلاتِ الأشْجارِ."
ما تعرّضتْ له الغابة ليس قضاء وقدرا بل هو من فعل الشخصيات.
وهذا ما أكّدته سيّدةُ الألوان مبيّنة أسبابَ ما حلّ بالغابة قائلة:
"إنَّ ما أصابَ الغابَةَ هو من فِعْلِنا؛ لقد فكَّرَ سكانُ الغابةِ بأنانيةٍ وأرادَ كلُّ واحِدٍ أنْ تكونَ له وَحْدَهُ، وتهاون الجميعُ في حمايَتِها."
من ملتقيات ومؤتمرات - مداخلة في الأدب البيئي - تجربة في الأدب البيئي للأطفال واليافعين - للأستاذ والكاتب: مالك الشويّخ- موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
وتباينتْ مواقف الشخصياتُ فقسمٌ كان لامباليا وغير آبه بما تعيشه الغابة. وقسمٌ فضّل الهروب من الغابة ناشدًا السّلامةَ والخلاصَ الفرديَ. والقسم الثالث فقد انخرط في أعمال التدمير بشكل واع وأنانيّ.
وتواصل الصراع مريرا وكادت الغابة أن تموت فرفعت الأشجار صوتها مستغيثة:
"أنْقِذُوا الغابَةَ.. أَنْقِذونا.. الغابَةُ تَأتيكُمْ بالهَواءِ النَّقيِّ.. أنْقِذوا الأشجارَ.. الأشْجارُ تُوَفِّرُ لكم الثِّمارَ والظِّلالَ.. إنَّنا نَمُوتُ.. أنْقِذُونا.."
فهل من مجيب ؟
أمّا في قصّة سلسبيلة التي تدور أغلب أحداثها في ضيعة الشيخ الجليل، فكان الحديث عن الأشجار هذه الثروة الطبيعية التي حبا الله بلادنا بها لما فيها من تنوّع من شمال تونس إلى جنوبها، وتبقى شجرة الزيتون رمزا لتونس فهي شجرة معمّرة تعيش مئات السنين وأكثر، وتحتمل الجفاف وتنتج ثروة عرفت بالذهب الأخضر، وقد اهتمّت قصّة سلسبيلة بشجرة الزيتون المباركة وما تتعرّض له من تدمير خطير وتجري الأحداث في القصّة حثيثة عندما أراد شقيق سلسبيلة تشجير الضيعة بطريقته الخاصّة فاستعان بشركة أجنبية كُلِّفت بإنجاز الأعمال وفق أحدثِ التقنيات واتّخذ المهندس المشرف على العمل قراره بقلع شجرة الزيتون ولم تتمكن سلسبيلة من ثنيه عن ذلك، عدَّدَتْ خصال هذه الشجرة المباركة متوسّلة لأخيها باكيّة قائلة:
"أرجوك يا أخي لا تقلع هذه الزيتونة المباركة، لقد غرسها جدّنا بيديه وسقاها بعرقه.. كانت شجرته المفضّلة لقد كان ينام تحتها وقت الظهيرة لقد كان يقول: ليتني أدفن تحتها فتتغذّى من ترابي.."
من ملتقيات ومؤتمرات - مداخلة في الأدب البيئي - تجربة في الأدب البيئي للأطفال واليافعين - للأستاذ والكاتب: مالك الشويّخ- موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
لكنّ توسّلات سلسبيلة لم تُجْدِ شيئا، فقد كان نظام العمل صارما والهندسة واضحة دقيقة لا تترك مجالا للاجتهاد حتّى وإن كانت هذه الزيتونة رمزا للضيعة، وأمْرُ المهندس لا يجادل، واجتمعت في مشهد مأساوي الآلات على الشجرة:
"تجهّم وجه المهندس وأمر بمواصلة القلع ومضتْ لحظاتٌ ثقيلة كالصّخر شديدة كالدّهر ثمّ انهارتْ الزيتونة العظيمة، وارتفعتْ الهمهماتُ ونزلتْ دموع البعض تأثّرًا وأعملت الآلاتُ فيها قصًّا.. وسوّيت الأرضُ فكان الفراغ الّذي تركته هائلا رهيبا."
واتّخذ التدمير شكلا ثانيا في قصّة سلسبيلة هو غرس أشجار جاءت بها الشركة الأجنبية. كانت الأشجار في علب متشابهة لها نفس الشكل وكانت مكتملة النموّ بل كان بعضها يحمل ثمارا أوشكت أن تنضج، فنحن نعيش عصرا كلّ شيء يأتينا جاهزا معلّبا لنستهلكه. وغرست الأشجار ورشّت بموادّ كيمياويّة مختلفة ومرّت الأيّام ثقيلة على الضيعة ولم تقبل التربة هذه الأشجار، مثل الجسم الذي نزرع فيه عضوا غريبا فلا يقبله. كانت التجربة فاشلة والثمار بدون طعم وماتت الأشجار رغم المعالجة الكيمياوية. فالبيئة لها شروطها التي تفرضها وزيادةُ الإنتاج لا تبرّر التفريط في تقاليدنا الزراعية، وتطويرُها لا يعني التفريط في بذورنا التي خبرناها وأثبتت ملاءمتها لبيئتنا وترابنا وأرضنا وهوائنا ومائنا.
ويشكو فارس ممّا حلّ بالضيعة أثناء نزوحه إلى المدينة ووقوعه في مكان غريب يقول متألّما:
"الجَفافُ قَتَلَ النّباتَ... المَصْنَعُ يَنْفُثُ سُمُومًا تَخْنُقُ الحَياةَ... الصَّحْراءُ تَزْحَفُ وتَزْحَفُ بِلا هَوَادَةَ. لقدْ ضيَّعَتْ الأنانيّةُ الأرْضَ الجَميلَةَ المِعْطَاءَ."
أمّا في قصّة التفّاح اللذيذ فيبدو التدمير بسيطا وتافها في ظاهره ولكنّه ليس كذلك إذ يتعلّق بسلوكنا اليومي وخاصّة سلوك الطفل في علاقته بالمحيط، فالطفل سامي يقطف التّفاحات غير الناضجة ولا يكتفي بذلك بل يهشّم الأغصان، فتتألّم شجرة التفّاح وتحتجّ وتقول معاتبة:
" لقد هشّمتَ أغصاني وبعثرتَ ثماري." التّفاح اللذيذ ص 6
والقصّة تثير قضيّة أعتبرها أساسيّة هي قضيّة التربية فنحن نحتاج إلى تربية بيئية تعلّم الطفل كيف يحافظ على محيطه يحافظ على الحديقة العمومية وعلى الأشجار في الطريق وفي المدرسة ويحافظ على نظافة الشواطئ وعلى الحيوانات المختلفة.
هذه أمثلة عديدة عن التدمير فماذا عن البناء؟
الأمثلة كثيرة ومعبّرة وواضحة فسيّدة الألوان وهبت حياتها من أجل أن يعود للغابة بهاؤها ورفضت أن تهاجر بعيدا عنها وأبتْ إلاّ أن تقود كلَّ الحشرات لمواجهة الآفات التي تهدّد كيان الغابة ووجودها وكذلك فعل الجعلان. وهم عمّال النظافة، فقد كانوا يكدّون من أجل نظافة الغابة وحيويتها وشاركت العديد من الحشرات المفيدة اقتناعا من الجميع بأنّ الغابة هي حياتهم.
في قصّة سلسبيلة اتّخذ البناء شكلا مختلفا فقد اشترط الشيخ الجليل ليوافق على زواج حفيدته سلسبيلة فقد طلب من فارس الّذي تقدّم لخطبتها أن يغرس ألف شجرة، وتفاجأ الحاضرون بهذا الطلب واعتبروه خرفا أصاب هذا الشيخ، في حين كان همّه إحياء الأرض ومحاولة شدّ الشّباب إليها بدل النزوح إلى المدينة أو العمل في المصنع.
والمثال الثاني عن هذا البناء ما تضمّنته قصّة سلسبيلة من دعوة إلى المحافظة على الأرض في طبيعتها الأولى فهذا يضمن ثمارا عذبة المذاق. وكأنّ القصّة تثير سؤالا مصيريا هو كيف نحافظ على بذورنا وتربتنا وعاداتنا الزراعيّة وفي نفس الوقت نضمن الوفرة والاكتفاء الذاتيّ من الطّعام والغذاء؟
وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (30)
نبتهجُ بخرير المياه في الجداول والسواقي ونفرحُ بزخّات المطر، وبقطرات الطلّ وهي تثقل الأوراق والأزهار. فهل حمينا هذه الثروة الطبيعيّـة ؟
الماء أساس حياتنا. والآية الكريمة: "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ" صدق الله العظيم توجز في عبارة أهمّية الماء في حياتنا وعيشنا.
منذ الفصل الأوّل لقصّة سلسبيلة نلاحظ حضورا كثيفا للمياه فسلسبيلة اسمها صفة للماء فالسلسبيل هو الشراب اللذيذ طيّب الطّعم. و كانت الفتاة تجيب من يسألها عن أبويها بابتسامة عذبة فتقول: أبي النّهر وأمّي الغيمة.
من ملتقيات ومؤتمرات - مداخلة في الأدب البيئي - تجربة في الأدب البيئي للأطفال واليافعين - للأستاذ والكاتب: مالك الشويّخ- موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
وفي بداية القصّة إشارة إلى النافورة المنتصبة أمام باب المنزل وكانت المياه تتدفّق منها باستمرار. وكانت سلسبيلة تجلس هي وفارس يتبادلان النظرات والهمسات قرب هذه النافورة التي ترسل إليهما رذاذا رقيقا.
وعندما لم تتحقّق شروط الجدّ انقطع تدفّق المياه في النافورة في علاقة بالتلوّث الصناعي بسبب المصنع الذي بُنِيَ على ضفّة النّهر وأدّى إلى انخرام التوازن البيئي في الضيعة. ولم يعد التوازن البيئي إلاّ بحلولٍ بعضُها واقعيٌ تمثّل في معالجة مياه المصنع الملوّثة في أحواض كبيرة لحماية مياه النّهر وبعضها عجيب يتمثّل في قدوم السلحفاة مع سرب من السلاحف، وقامت السلاحف بعمل جبار وانبثقت المياه من النافورة وتحوّلت القطرات إلى فيض عميم.
أوّل إطلالة لسيّدة الألوان رفقة صديقتها كانت مقترنة بالمياه فهي مبتهجة بوجود الماء قائلة:
"لقد وجدتُ جدولا صغيرا فدعاني إلى أن أشرب من مائه الزّلال."
وفي مشهد مريع يتمثّل في الحرائق كان الردّ واضحا وحاسما فالساقية هي التي اختبأت وراءها سيّدة الألوان منتظرة المياه الهادرة لتوقف ألسنة اللهيب ولجأت الحشراتُ إلى السّدود، فاندفعتْ المياهُ الجارفة لتطفئ الحرائق. وليكتمل المشهد تلبّدتْ السّحبُ كثيفة ثمّ هطلتْ الأمطارُ غزيرةً.
إنّ الميّاه في المخيال الشعبي هي رمز للخير والنماء والخصب، والمياه بصفاتها هذه عامل أساسيّ في حياتنا وحماية المياه واجب بيئيٌ ومهما كانت السّيول مدمّرة فإنّها تبقى علامة خير.
ثالثا: أحتاج إلى هواء نقيّ.
بعيدا عن التلخيص أشير إلى النقاط التي وقع الحديث عنها في القصص المذكورة أعلاه وتتعلّق بالهواء الذي لا غنى لنا عنه فهو كما قالت أشجار الغابة وهي تستغيث:
" أنْقِذُوا الغابَةَ.. الغابَةُ تَأتيكُمْ بالهَواءِ النَّقيِّ.."
الغابات ويسمّيها البعض رئات الكرة الأرضيّة لأنّها تخلّصنا من غاز ثاني أكسيد الكربون وتوّفّر لنا الأوكسجين الضروريّ لحياتنا وقد وقعت الإشارة إلى عدّة نقاط في القصص التي اخترناها في هذه الشهادة وتتعلّق بالهواء الّذي نحتاج إليه:
· وقع التأكيد على عامل النظافة في المحيط الذي نعيش فيه وبدونه تنتشر الروائح الكريهة وتصبح الحياة غير ممكنة.
· وقعت الإشارة إلى خطر التلوّث الصناعي وما ينتج عنه من تلوّث الهواء:
"أزكمتهم رائحة خانقة من سحب سوداء مسمومة تنفثها مداخن كريهة."
من ملتقيات ومؤتمرات - مداخلة في الأدب البيئي - تجربة في الأدب البيئي للأطفال واليافعين - للأستاذ والكاتب: مالك الشويّخ- موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
وفي قصّة سيّدة الألوان تحذير من سموم النفايات القاتلة، وكأنّ سيّدة الألوان تحذّرنا من الإشعاعات النووية التي مازالت بعض الشعوب تعاني من ويلاتها بعد عقود بداية من استخدام القنبلة الذريّة في هيروشيما وناجازاكي إلى انفجار مفاعل تشرنوبيل.. سموم النفايات سواء كانت نتيجة التصنيع أو استخدام أسلحة الدمار الشّامل هي خطر حقيقيّ يهدّد البشرية في ظلّ عولمة متوحّشة ونزاعات دولية قد تستخدم فيها أسلحة الدّمار الشامل رغم توازن الرّعب الذي يعيشه عالمنا.
من ملتقيات ومؤتمرات - مداخلة في الأدب البيئي - تجربة في الأدب البيئي للأطفال واليافعين - للأستاذ والكاتب: مالك الشويّخ- موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
· وقع التنبيه إلى ضرورة توفّر هواء نقيّ لعيش سليم فالطبيعة في حالتها البكر تكون الثمار لذيذة وطيبة الرائحة.
رابعا: من يوقف ألسنة اللهب ؟ الطاقة المتجدّدة أم الدّمار الشامل.
تختلف الثقافات حول النار فهي في بعض معتقدات الشعوب مقدّسة ورمز للطهارة و هي في الديانات السماوية جهنّم وبئس المصير وهي منذ اكتشافها واستخدامها في طهي الطّعام وفي صهر المعادن تعدّ عاملا أساسيّا في حياتنا اليومية وفي اقتصادنا وصناعتنا.
وفي ما كتبت من قصص للأطفال صورتان متباينتان للنّار فالشّمس هذه الكتلة الملتهبة من النار تبدو في قصّة العازفة الصّغيرة رغم ذلك كالأمّ الرؤوم تطلّ من عليائها وتحتضن كوكب الأرض وتملؤه دفئا وحياة، وهي كذلك طاقة يمكن أن تغيّر حياتنا فهي طاقة نظيفة متجدّدة يمكن أن تفيد البشريّة.
وللنار وجه آخر بشع فهي الدّمار الشّامل فقد أصبحت الحرائق تؤرّق البشريّة فهي تقضي على الغطاء النباتي في الكرة الأرضية وآخر الحرائق وأبرزها حرائق غابات الأمازون والحرائق التي اندلعت في أستراليا وهذا يؤثّر تأثيرا كبيرا على التغيّرات المناخية ويؤدّى إلى الاحتباس الحراري وازدياد الغازات الدفيئة وارتفاع درجة حرارة سطح الكرة الأرضية.
وفي قصّة سيّدة الألوان اخترتُ اسم أبو لهب رمزا للنيران والحرائق وصورته في الكتاب صورة تنين يحرق بألسنة النار التي ينفثها كلّ ما يعترض طريقه. ووردت في قصّة سيّدة الألوان صيحة مدوّية لإنقاذ الغابة:
"إنَّ أبا لَهَبٍ لا يَرْحَمُ أحَدًا.. النِّيرانُ تَشْتَعِلُ في كُلِّ أرْجاءِ الغابَةِ وتَلْتَهِمُ كلَّ ما يَعْتَرِضُ طريقَها.. أنْقِذينا يا سيّدةَ الألوانِ."
من ملتقيات ومؤتمرات - مداخلة في الأدب البيئي - تجربة في الأدب البيئي للأطفال واليافعين - للأستاذ والكاتب: مالك الشويّخ- موقع (كيدزوون | Kidzooon) |
خامسا: البحر حياتنا وفرحنا.
قصّة: البحر يضحك من الأعماق. هي الوحيدة من بين القصص التي كتبتها استهلّت بإهداء والإهداء هو: إلى من ساهم في تنظيف شواطئ صفاقس.
ارتبطت القصّة بواقع مدينة فقدتْ بحرها الّذي دمّرته الصناعة الملوّثة هي قصّة للأطفال، وشخصياتها أطفال باستثناء الفصل الأخير، ما جمع بينهم هو حبّ البحر والرغبة في عودة الحياة إلى الشواطئ. تبدأ القصّة بجملة خبرية مؤكّدة في شكل صيحة أطلقها طارق: " لقد سرقوا البحر.. لقد سرقوا البحر.." وتلا هذا الخبر جمل إنشائية عديدة تعبّر عن الحيرة والاحتجاج والرفض: متى ؟ ، أين أخفوا البحر ؟ ، لماذا سرقوا البحر ؟، من فعل ذلك ؟
ولأنّ القصّة تقوم على البطولة الجماعية فقد اندفع الأطفال وقالوا معا:
"سندافع عن البحر.. البحر صديقنا " ص 17
فماذا فعل هؤلاء الأطفال من أجل أن يعود للشواطئ بهاؤها؟
بين البداية والنهاية حوار ثريّ تداخلت فيه أزمنة ثلاثة الماضي كما حدّثهم عنه الجدّ تقول رانية:
"كانت الشواطئ نظيفة هادئة مزدحمة بالعائلات تأتيها للاصطياف والسّباحة.. كانت المياه نظيفة وعميقة.." ويسألونها عن جدّها هل يعرف من سرق البحر فتتجاهل سؤالهم وتواصل تغنّيها: " كانت النوارس تحلّق بأجنحتها العريضة البيضاء وهي تصيح وتقول: أحبّك أيّها البحر.. وكانت الأسماك تسبح في زرافات بيضاء كاللجين وهي تردّد : أحبّك أيّها البحر."
هذا هو البحر خير وثروة ورياضة وفسحة.
|
أمّا الحاضر فهو بائس جدّا توجّه الأطفال إلى الشاطئ ليكتشفوا هول ما حدث، وما حدث ورد في مقطع وصفي صوّر فيه السّارد ما حلّ بالمكان قائلا:
" رأوا المكان خرابا يبابا.. أكداس من الحجارة وإسفلت الشوارع وأكوام من بقايا البناء وأنابيب صدئة وبقايا حديد وآلات غير صالحة للاستعمال. أزكمتهم رائحة خانقة من سحب سوداء مسمومة تنفثها مداخن كريهة من بعيد." ، ثمّ فوجئوا بشاحنات تأتي لإلقاء حمولاتها من فواضل البناء، أمّا المستقبل فقد بشّرت به رانية قائلة: " قال لي جدّي: ستعود النّوارس قريبا.. النوارسُ تُحبُّ الشواطئ النظيفة. "
نهاية القصّة كانت سعيدة فقد انتهت أعمال التنظيف ونصب الرّجالُ شمسياتٍ على امتداد الشواطئ النظيفة.
ثانيا: الأدب البيئي للأطفال واليافعين. أيّ خطاب؟
· الشخصيات القصصيّة.
هل ضروري أن تكون الشخصيات القصصية في أدب الطفل من الأطفال حتّى يقبل القارئ الصّغير على المطالعة والكتاب؟ سأحاول الإجابة على السؤال بالعودة إلى القصص التي اخترناها. اخترت في قصّة البحر يضحك من الأعماق أن تكون أغلب الشخصيات من الأطفال فقد صنعوا بطولة جماعية ودار الحوار بينهم في كامل القصّة ممّا أدخل حيويّة وحركية على العمل وهو ما يريده القرّاء الصّغار، وسعدت بمسرحة هذه القصّة.
أمّا في قصّة سلسبيلة وهي لليافعين فكانت سلسبيلة وفارس من الشباب وشهدت الشخصيتان تغيّرات معقّدة حسب تطوّر الأحداث في القصّة لكنّ القصّة تحتوي على شخصيات من مختلف الأعمار من الشيخ إلى الطفل.
وكان الأمر مختلفا في قصّة سيّدة الألوان فكما أسلفنا كان عالم سيّدة الألوان هو عالم الحشرات فالأطفال تشدّهم القصص التي شخصياتها من الحيوان كما ذكرنا سابقا، ولعبت الحشرات دور الشخصيات المساعدة والشخصيات المعرقلة وتفاعل معها الأطفال وخاصّة مع الشخصية الرئيسيّة سيّدة الألوان التي أحبّها القرّاء الصّغار وهو ما تبيّنته في لقاءات تربوية وثقافية جمعتني مع الأطفال والمربّين.
· الصراع محرّك الأحداث.
القصّة سواء كانت للأطفال أو للكبار تقوم على الصراع فهو محرّك الأحداث من البداية إلى النهاية والقارئ الصّغير لا يرغب في مواصلة القراءة إن لم تشوّقه الأحداث لمتابعة تأزّم الأحداث ثمّ انفراج الأزمة وحلّ العقدة وانتظار النهاية. الصراع في سلسبيلة اتّخذ منحى أوّل هو السّعي لتلبية شروط الشيخ الجليل وهي غرس الأشجار وعند فشل فارس في تحقيق هذا الشرط جاهد من أجل استرجاع زوجته الحبيبة ومن أزمة إلى أخرى حتّى تنتهي الأحداث نهاية سعيدة.
أمّا الصراع في قصّة: البحر يضحك من الأعماق، فكان ضدّ قوى خفيّة لكنّها فاعلة، وهي حاضرة من خلال مشهد البيئة الملوّثة والشواطئ الكريهة فقد اختفى البحر وراء أكوام بقايا البناء وظهرت المداخن العالية التي تنفث دخانا كريها وكان الصراع غير متكافئ فالسواعد المفتولة وهم يلقون ما في جوف الشاحنات من أتربة وبقايا بناء يواجهون الأطفال ويكيلون لهم سيلا من الشتائم فهم لا يريدون أن يعكّر صفو عملهم أحد وتسوؤهم أعمال التنظيف التي يقوم بها الأطفال. وتأتي النهاية سعيدة عندما يضحك البحر من الأعماق مبتهجا بعودة الشمسيات إلى الشواطئ دفاعا عن حقّ الأجيال الصاعدة في بيئة نظيفة وفي بحر نظيف.
عالم سيّدة الألوان هو عالم الحشرات وهو عالم طريف ويمكن أن نميّز ضمنه مجموعات متصارعة: مجموعة النحل تخيّر الفرار بحثا عن مكان يحلو فيه العيش، مجموعة الجعلان وهم عمّال النظافة يتفانون في خدمة الغابة ولكنّهم يتعرّضون للسخرية ويردّد الجعل بعد أن وقع الاعتداء عليه وهو يحسّ بالغبن:
"أهذا جزاء من بذل روحه وحياته في خدمة الغابة ؟" المجموعة الثالثة هي مجموعة الكسالى من الصراصير وعلى رأسهم زعيمهم الأسود وشعارهم في ذلك هو:" ننام كثيرا.. نغنّي كثيرا.. نرقص كثيرا.."
وبين مختلف المجموعات يدور صراع فيه حيوية وفيه طرافة، ويشتدّ الصراع ليصبح قضيّة حياة أو موت ضد تنّين الغابة وضدّ أسراب الجراد. وكانت القائدة في هذا الصّراع سيّدة الألوان التي تمكّنت من إعادة الحياة إلى الغابة فكانت بحقّ رمزا للتضحيّة والفداء.
· اللغة.
اخترت في أعمالي أن تكون اللغة سهلة، فالقارئ الصّغير يحبّ الوضوح وسلاسة اللغة وإن لم تخل أحيانا من السخرية الخفيّة والتلميح وهو ما تستدعيه بعض المواقف، وابتعدت عن غريب اللغة فالحذلقة اللغوية لا تتماشى وأدب الطفل حسب اعتقادي.
· الأحلام.
فرّ فارس أثناء نزوحه إلى المدينة وأخذ يحلم وهو يدلي قدميه في مياه النّهر فرأى شجرة باسقة مختلفة أوراقها مُتَعَدِّدَةُ الأشكالِ وأزهارها مختلفة الألوان وثمارها رُمّانٌ وإجَّاصٌ وتُفّاحٌ، وعناقيدُ مَنْظومَةٌ حبّاتُهُ. وكانت الطّيورُ تقفِزُ في حُبُورٍ. وأقبل عليه أطفالٌ سُمْرٌ وبيضٌ وسُودٌ وصُفْرٌ وحُمْرٌ، أخذوا يَرْقُصُون حَولَ الشَّجَرَةِ وهم يُغَنُّونَ لها وهَمَسَ هاتفا باسم سلسبيلة:
" كلُّهم أبنائي... وكلُّ هذه الثمارِ اللذيذةِ لهُمْ، وهذه الطُّيُورُ المُغَرِّدَةُ تُنْشِدُ لنا أنشودةَ السَّلامِ..."
أمّا في العازفة الصّغيرة فكان الحلم كبيرا حلم بالاستفادة من الطبيعة دون تلوّث ومجانا فالشّمْسُ تتمنّى أمنية ليست صعبة التحقيق إذ تقول لصديقتيها لينا وزهرة عبّاد الشّمس:
"لَطالَما تمنَّيْتُ أنْ يسْتَفيدُوا منْ طاقَةِ الشّمْسِ، أمْنَحُها لهم مَجَانًا ليَقومُوا بتَحْلِيَةِ مياهِ البَحْرِ ويَزْرَعُوا الأرْضَ، ويُحارِبُوا الجُوعَ والفقْرَ ولكنَّ الجَهْلَ والغَباءَ والأنانيّةَ منعَتْهُمْ..."
ولزَّهْرَة عبّاد الشّمس حلمُها أيضا فهي تقول للينا بعد أن أثقلتها الأيّام وتقوّست ساقها:
" اِسْمعي يا لينا، اُنْظُري وسط الزّهرةِ الكبيرةِ بُذُورٌ كثيرةٌ سوْداءُ...اُنْثُرِيها للطُّيورِ حتّى لا تبْقى جائِعَةً..." وتضيف قائلة: "ـ لا أريدُ أن تجوعَ الطُّيُورُ ولا أريدُ أنْ يجوعَ الأطْفالُ. لا أُريدُ أنْ يَمُوتَ ولوْ طفلٌ واحِدٌ جُوعًا... اِغْرِسُوا الحُبُوبَ في كلّ مكانٍ اِغْرسوا الأشجارَ في الحقولِ والصّحاري والجبالِ..."
· علّم الأطفال وهم يستمتعون بالمطالعة.
يقبل القارئ الصّغير على المطالعة عندما يجد متعة في القراءة. وتوخّيت في ما كتبت ركائز هي أساسية في عملي وهي التالية:
· صورة المرأة: تبدو صورتها بارزة وناصعة فالمرأة تلعب دورا هامّا وفاعلا في حماية البيئة والمحيط في عالمنا اليوم واخترت في قصصي شخصيات نسائية تلعب دورا كبيرا في حماية الطبيعة والتنبيه إلى الأخطار التي تتهدّدها مثل سيّدة الألوان وسلسبيلة ورانية.
· صورة الجدّ: وفيها تقدير لما قام به الأسلاف من أعمال جليلة فيها حبّ للطبيعة والأشجار مع الدعوة إلى ضرورة مواصلة ما أنجزوه من أعمال، ولكن هذا لا ينفي الصراع بين الأجيال بين شباب يريد التغيير وشيوخ محافظين لا يرغبون في ذلك.
· الطّرافة: توخّيت في قصصي الطرافة لشدّ القارئ الصًّغير من ذلك اختيار عالم الحشرات أو عالم الطفولة وكذلك بعض الشخصيات الشّاذّة في سلوكه: مثل قاسم شقيق سلسبيلة وكذلك السلطان مرعوش وغيرهما.
· الحوار: يلعب الحوار دورا هامّا في كشف بعض السلوك السيّء أو إبلاغ رسالة إلى القارئ وقد يأتي على لسان شخصيات ثانوية ولكن لها وظيفة هامّة في العمل القصصي.
وأختم هذه المداخلة بالقول إنّ أدب الطفل أساسيّ في تكوين الناشئة وهو يهتمّ بكلّ المواضيع دون استثناء ومنها البيئة والمحيط فهو مدرسة مفتوحة على الحياة يغذّي وجدان الطفل ويشحذ خياله ويقدّم دروسا للطفل الّذي سمّاه البعض القارئ الصامت في حين هو قارئ ذكيّ يتفطّن إلى أدقّ التفاصيل، وإذا تفاعل مع أحداث القصّة واعتبرها عالمه واندمج فيه أيّما اندماج فثق أنّ الكاتب نجح في عمله الأدبي أيّما نجاح، بعيدا عن لغة الوعظ والإرشاد والخطاب المباشر.
لذا فمهمّة الكاتب في الأدب البيئي مهمّة كبيرة إذا تمكّن من تجويد عمله من حيث البناء والحبكة القصصيّة وشدّ القارئ الصّغير بشخصيات يحبّها وأحداث مشوّقة وحوار حيّ فإنّه سيقدّم خدمة جليلة للبيئة والطبيعة والمجتمع، ويؤدي رسالته السامية على أحسن وجه.
---------------------------------------------
للمزيد من قصص وأعمال الكاتب: مالك الشويّخ، وللمزيد من المقالات الأدبية والتربوية يمكنكم الاطلاع على مواضيع الأقسام التالية: مقالات تربية الطفل ومقالات أدب الطفل.
---------------------------------------------لقراءة المزيد من قصص وإبداعات الكاتبات والكتاب في موقع (كيدزوون | Kidzooon) بإمكانكم الضغط على اسم الكاتب أو القسم المناسب لكم، وذلك من القائمتين الجانبيتين المعنونتين باسم: الأقسام والفروع.
---------------------------------------------تم نشر المقال بطلب من صاحبه: أ. مالك الشويّخ.
-------------------------------------